الكاتب: صباح الموسوي
تعيش إيران اليوم أزمة داخلية, وربما أزمة من نوع آخر هذه المرة وسط المرجعيات الدينية، فبعضهم يرى ضرورة تقييد سلطات المراجع الدينية تقييدا سياسيا, أي بمعنى آخر عدم إيمانها بولاية الفقيه المطلقة، وهذا الخلاف يتجسد اليوم في خروج المراجع على المرشد علي خامئني ومطالباتهم بضرورة عدم هيمنة الجانب الديني على السياسي، واحترام التنوع الديني والقومي والمذهبي.
هذا الخلاف سيكون له, بالطبع, انعكاسات كبيرة في تعزيز استقلالية مرجعية النجف التي كانت رافضة ولاية الفقيه.
إلا أن المؤشرات تفيد بشكل لافت للانتباه تعرض هذه المرجعيات الشيعية إلى اعتداءات واضحة أدت إلى اعتقال بعضهم والزج بهم في السجون أو نزع العمة عنهم, خاصة أولئك الذين اختلفوا مع نظام الجمهورية الإسلامية ومرجعيتها ومرشدها الديني ''الخميني سابقا وعلي خامئني اليوم'' في أفكارهم ورؤاهم الشرعية والسياسية.
واللافت أيضا أن تلجأ إيران إلى نشر بعض خلافاتها مع تلك المرجعيات في مذكرات شخصية لمرافقين للإمام الخميني وخلافه معهم, وكان أبرزها مذكرات الشيخ محمد سمامي أحد أهم مرافقي الخميني طوال فترة وجوده في العراق, التي كشف فيها خلافه الكبير مع آية الله محسن الحكيم والد عبد العزيز الحكيم، وربما يكون السبب ذاته وراء محاولات إقصاء شقيقه من والدته محمد سعيد الطبطبائي الحكيم, وهو الحفيد الأكبر لآية الله محسن الحكيم من جهة الأم, والأخير يعد أبرز المرشحين لخلافة المرجع علي السيستاني كونه أكبر مراجع الشيعة العراقيين والوحيد الذي ما زال متمسكًا بخصوصية الحوزة النجفية التي تميزها عن سائر الحوزات الشيعية الأخرى، الأمر الذي يطرح تساؤلات كبيرة وبعيدة عن محاولات اغتياله واغتيال أبي القاسم الخوئي ومن قبله محمد باقر الحكيم, خاصة في ظل محاولات إيران الهيمنة على مرجعية النجف واستقلاليتها، وفي ظل تدهور الوضع الصحي للمرجع علي السيستاني.
من المعروف أن المرجعية الدينية الشيعية في إيران, ومنذ عهد الدولة الصفوية (1501 ـ 1785) التي اعتمد مؤسسها الشاه إسماعيل الصفوي على رجال الدين لكسب الشرعية وترسيخ قواعد دولته التي قامت على أسس طائفية, تحصنا بحصانة قلما تعرضت للانتهاك من قبل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم إيران قبل قيام الجمهورية الإسلامية.
وهيأت هذه الحصانة التي كانوا يتمتعون بها في عهد نظام الشاه, الذي رغم علمانيته وفر حصانة للمرجعيات الدينية لم تتوافر مثلها في ظل النظام الديني الحالي, الفرصة لرجال الدين كي يسقطوا ذلك النظام, لكن بعد ذلك أصبحت هذه الحصانة عرضة للانتهاكات من قبل السلطة الحاكمة باستمرار. حيث تعرض ومازال يتعرض عديد من المرجعيات الدينية للإهانة والاضطهاد, الذي تمثل جانب منه في الاعتقال والسجن والإقامة الجبرية وخلع العمامة لعديد من كبار المرجعيات الشيعية في إيران, ما أدى إلى اعتبار نظام الجمهورية الإسلامية أكثر الأنظمة الإيرانية إساءة للمرجعيات الدينية. لقد واجهت إيران منذ بداية انتصار الثورة معضلة مهمة تمثلت في معارضة عدد غير قليل من كبار المرجعيات الدينية نظرية ولاية الفقيه المطلقة, حيث رأى المعترضون في هذه النظرية تكريسا لدكتاتورية رجال الدين وإلغاء لمبدأ ''الاستقلال والحرية والجمهورية'', الذي كان المطلب الرئيس للشعوب والقوميات الإيرانية التي ثارت ضد نظام الشاه.
ولقي قادة الثورة ونظام الجمهورية ''آية الله خميني'' صعوبة في الحصول على اعتراف من قبل المرجعيات العليا في حوزتي قم والنجف بنظرية ولاية الفقيه, وسبب ذلك يعود إلى كونها تمنح الفقيه الحاكم سلطة لم يمنحها الله للأنبياء ـ على حد تعبير الشيخ مهدي كروبي أحد أقطاب المعارضة الإصلاحية. فيما ذهب رجال دين آخرون موالون للنظام من أمثال الشيخ محمد تقي مصباح يزدي اعتبار كل من لا يؤمن بنظرية ولاية الفقيه مرتدا ـ حسب زعمه. ولهذا سعت السلطة إلى قمع معارضي هذه النظرية وعلى رأسهم عدد من أبرز مراجع الشيعة في داخل إيران وخارجها, دون الاعتناء بالحصانة التي يتمتع بها هؤلاء المراجع.
وعلى سبيل المثال لا للحصر, قامت السلطات في أوائل انتصار الثورة باعتقال المرجع الكبير السيد كاظم شريعتمداري'' (ت: 23 رجب 1406هـ) الذي رفض نظرية ولاية الفقيه وعدها مخالفة لقواعد الحرية والجمهورية الإسلامية. وعلى الرغم من الحصانة التي كان يتمتع بها بصفته مرجعا أعلى إلا أنه تعرض لأقصى الإهانات, وجرى عزله من منصب المرجعية وصودر جميع أمواله وأغلق مكتبه وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية إلى حين وفاته.
أما المرجع الآخر الذي تم انتهاك حصانته وجرت إهانته فهو المرجع العربي الشيخ محمد طاهر الخاقاني (ت: 1986), الذي كان يعد مرجعا لعرب الأحواز وعدد كبير من الشيعة في إيران ودول الخليج العربي, فنتيجة لرفضه مبدأ ولاية الفقيه والمطالبة بالمساواة في الحقوق بين كل أبناء الشعوب والقوميات في إيران جرى اعتقاله ونقله من مدينة المحمرة إلى مدينة قـم وبقي تحت الإقامة الجبرية حتى توفي فيها.
كما جرى كذلك انتهاك حصانة المرجع محمد مهدي الشيرازي (ت: 1422هـ) واعتقال أبنائه وعديد من أتباعه وتم وضعه قيد الإقامة الجبرية لسنوات عديدة لكونه طالب بتطبيق مبدأ ''شورى الفقهاء'' بدلا من مبدأ ولاية الفقيه التي أرادها آية الله الخميني لتعزيز سلطته لتكون مماثلة لسلطة ماوسي تونج في الصين ـ حسب قول أنصار الشيرازي.
ثم توالت أعمال التعدي على المرجعيات وانتهاك حصانة رجال الدين الكبار حتى وصلت إلى أبرز الشخصيات الدينية على الإطلاق وهو الشيخ علي حسين منتظري (ت: 2009), بعد أن جرى عزله من منصبه كنائب لقائد الثورة, وجاء عزله نتيجة اعتراضه على السياسات والممارسات الخاطئة التي أخذ يرتكبها رجال الدين في السلطة, فبعد عزله فرضت عليه الإقامة الجبرية. وكان المنتظري في أواخر حياته قد وصف نظرية ولاية الفقيه المطلقة بأنها ''من العناوين البارزة للشرك'', وأضاف: ''في اعتقادي أن الرسول الأكرم ذاته لم يكن يحظى بالولاية المطلقة, فالآية القرآنية تأمر الرسول بالعمل وفق القانون الإسلامي لا حسب رأيه''. ونتيجة ذلك تعرض مكتب المنتظري وبيته لاعتداءات عديدة وجرى فيها إهانته وضربه رغم كبر سنه وأهمية مركزه الديني.
ولم يستثن مراجع ورجال دين كبار آخرون من الإهانة وهتك الحصانة التي يتمتعون بها, ومن بين هؤلاء يمكن ذكر المجتهد البارز آية الله محمد حسين كاظميني بروجردي, الذي تمت مهاجمة منزله في طهران وجرى اعتقاله وضربه أمام أنظار العامة ولا يزال يقضي عقوبة بالسجن لمجرد مطالبته بفصل الدين عن الدولة وعدم تسييس الدين.
وهناك رجال دين ومجتهدو شيعة كبار خارج إيران قد تعرضوا أيضا للمحاربة وحملات التشهير بسبب آرائهم المخالِفة لنظرية ولاية الفقيه, وكان من أبرزهم المرجع الأعلى آية الله أبو القاسم الخوئي (ت: 1413هـ) الذي تم إحراق مكتب ممثله في مدينة قم الدينية نتيجة مخالفته نظرية ولاية الفقيه المطلقة وعدم دعمه موقف إيران في حربها ضد العراق آنذاك.
ومع تصاعد الأزمة السياسية الأخيرة التي نشبت عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت في حزيران (يونيو) العام الماضي, التي وجه فيها قادة حركة المعارضة الإصلاحية اتهامات للسلطة بالتلاعب في نتائجها لمصلحة المرشح المدعوم من قبل مرشد الثورة آية الله علي خامنئي, الرئيس أحمدي نجاد, فقد عادت هجمة الاعتداءات ضد المرجعيات الدينية تتكرر من جديد، وطالت هذه الهجمة حفيد مؤسس الجمهورية الإيرانية حسن الخميني, الذي تعرض لحملة تشهير عنيفة من قبل السلطة, وجرى منعه من إتمام كلمته في حفل مراسم إحياء ذكرى وفاة جده آية الله الخميني, حيث اعتاد حسن الخميني إلقاء خطاب بهذه المناسبة كل عام، حيث ردد عناصر من أنصار الرئيس أحمدي نجاد هتافات وشعارات احتجاج على دعم حسن الخميني المعارضة الإصلاحية ، مكررين عبارة ''الموت للمنافقين''، وهو الشعار الذي تطلقه السلطة على المعارضة.
كما تعرض المرجع الديني البارز والممثل الأسبق لآية الله الخميني في مدينة قم آية الله يوسف صانعي, الذي اعتبر فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد في الانتخابات غير شرعي، واعتبر محاكمات المحتجين على نتائج الانتخابات باطلة, لانتهاكات مستمرة, فبعد أن هاجم في كانون الأول (ديسمبر) الماضي نحو ألف عنصر من ميليشيات الباسيج (التعبئة) مكاتب آية الله صانعي في مدينة قم, فقد تعرض منزله يوم الأحد 13 حزيران (يونيو) 2010 لهجوم مشابه, وتزامن مع ذلك مهاجمة مكتب المرجع الراحل حسين علي منتظري, وبعد تخريبه جرى إغلاقها من قبل محكمة رجال الدين.
مهاجمة بيوت ومكاتب مراجع الدين المعارضين لنظرية ولاية الفقيه والداعمين للمعارضة الإصلاحية, يرى بعض المراقبين أنها لم تكن لتحصل لولا موافقة أعلى السلطات في النظام, بل إن هناك من وجه التهمة مباشرة إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي محملا إياه مسؤولية الهجمات على بيوت المرجعيات الدينية ومكاتبهم. وهذا ما صرح به علانية سعيد منتظري نجل المرجع الراحل حسين علي منتظري, حيث أكد في أكثر من لقاء مع وسائل الإعلام الأجنبية أن الهجمات التي تعرض لها مكتب والده ومنزل آية الله صانعي يوم 13 حزيران (يونيو) الجاري, تمت بعد يوم واحد فقط من زيارة مرشد الثورة آية الله علي خامنئي إلى مدينة قم والاجتماع سرا بعدد من كبار رجال الدين المؤيدين له في الحوزة. ويضيف سعيد منتظر: ''إن الذين قاموا بتلك الهجمات هم من عناصر المخابرات ومليشيات الباسيج, وهذا يدل على أن الأمر كان مدبرا من قبل السلطات الرسمية وليس عملا عرضيا من قبل أناس متشددين موالين للرئيس أحمدي نجاد كما حاول البعض إظهار ذلك''.
وأضاف منتظري: لقد قارن خامنئي الوضع الحالي، بما جرى في عهد الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ حيث ادعى أن أقرب أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ استلوا سيوفهم ضد علي. وكان هذا الكلام بمثابة الضوء الأخضر لمهاجمة المراجع المؤيدين للمعارضة الإصلاحية, بغض النظر عن سيرتهم السابقة وقربهم من قائد الثورة الراحل آية الله الخميني. وتأييدا لما قاله منتظري, فقد أكد الصحافي الإصلاحي والطالب في حوزة قم الدينية محمد جواد أكبرين في مقابلة مع الإذاعة الألمانية الناطقة بالفارسية يوم 15 حزيران (يونيو) 2010, أن هناك لجنة مؤلفة من مدير مكتب خامنئي الشيخ محمد كلبايكاني ووزير الاستخبارات السابق والمدعي العام الحالي الشيخ محسن إيجئي وزعيم جماعة حزب الله وعضو البرلمان الشيخ روح الله حسينيان, هي التي تخطط وتشرف على تنفيذ الهجمات على بيوت ومكاتب المرجعيات الدينية المعارضة لنظرية ولاية الفقيه الداعمة لحركة المعارضة الإصلاحية. ويضيف أكبرين: هذه اللجنة تتلقى توجيهاتها من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي عبر المدعي العام للبلاد محسن إيجئي الذي يعد أقرب مسؤول قضائي وأمني لخامنئي. ويؤكد رجل الدين والصحافي الإصلاحي '' محمد جواد أكبرين أن لديه فيلما مصورا عن الزيارة السرية التي قام بها المرشد الأعلى إلى مدينة قم في 12 حزيران (يونيو) 2010 م واجتماعه باللجنة التي قامت بإصدار الأوامر لمهاجمة منزل آية الله صانعي ومكتب الله منتظري. وأعرب أكبرين عن أمله في أن يعرض هذا الفيلم عما قريب حتى يطلع الناس ويعلموا ـ حسب قوله ـ العلاقة وما يدور بين الجهات التي تهاجم وتنتهك حصانة المرجعيات والولي الفقيه والمرشد الأعلى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق